إيديولوجيا اللا إيديولوجيا، فكرٌ رقميٌّ منْ دونِ هوية!

 



بقلم: وسام أبو حسون

في كلِّ يومٍ يطلّ علينا أحدُ مدعيّ الثّقافةِ وَ أحدُ مدراءِ تحريرِ الصّحفِ السّائلةِ البُرجوازيةِ ذاتِ المحتوى الرديء،  وَ يقول:

"أنّهُ لمْ يعدْ يريدُ أيّةَ إيديولوجيّةٍ في الحلّولِ وَ يريدُ لِصحيفتهِ أنْ تكونَ مستقلةٌ وَغيرُ مؤدلجة،  وَمنْ ثمّ يلحقها بِعبارةِ  (وَ ذلكَ منْ أجلِ الوصولِ إلى الحلّ الدّيمقراطي  في سوريا)".

 

سذاجةٌ لا مثيلَ لها تطرحُها مفرزاتُ العولمةِ حولَ فكرةِ الأيديولوجية،  الإيديولوجيةُ هيَ طريقةُ عملِ أيّةَ مَجموعةٍ مِن أجلِ إيجادِ الحلّ لِمشاكلِ المجتمعِ وَ الدّولةِ وَ الاقتصادِ،  أيّ أنّ الإيديولوجيةَ هيَ شيءٌ طبيعيٌ وَضروريٌ في العملِ السّياسي، وَلا يمكنُ لِلتّعدديةِ السّياسيةِ أنْ تستمرَ منْ دونِ التّعددِ الإيديولوجي وَ إنّ رفضَ الإيديولوجياتِ هي إيديولوجيةٌ بِذاتِ نفسها.

عملتْ منظومةُ رأسِ المالِ العالميةِ على تعميقِها منْ أجلِ الحفاظِ على حالةِ الاستقطابِ وَ هذهِ الحالةُ حسبَ تعريفِ "سيغموند باومان" وَ هوَ عالمُ اجتماعٍ بولندي اسمُها  الإيديولوجيةُ السّائلة".

 الاستقطابُ الإيديولوجيّ العالمي!

 في الحقيقةِ، منذُ أكثرَ منْ ثلاثةِ عقودٍ منَ الزّمنِ نشهدُ حالةَ استقطابٍ اقتصادي عالمي متمثلٍ بِالغربِ الرّأسمالي المُنتجِ وَ بِالشّرقِ الموردِ لِلطّاقةِ اللازمةِ لِلغربِ منْ أجلِ الإنتاجِ،  وَ منْ ثمّ المستهلكُ لِلمنتجاتِ الصّادرة.

 إنّ هذا الاستقطابُ الاقتصادي ( بِالنّسبةِ لِمنظومةِ رأسِ المال) قائمٌ في الأساسِ على استقطابٍ إيديولوجي يقعُ قطبهُ الموجبُ في الغربِ ( أيديولوجيةُ الإنسانِ السّائل) وَ قطبهُ السّالبُ في الشّرقِ ( إيديولوجيةُ الإنسانِ المهدور).

 

 من هوَ الأنسانُ صاحبُ  الإيديولوجيةِ السّائلة؟

 

تأتي هذهِ الإيديولوجيةُ منْ طبيعةِ منظومةِ رأسِ المالِ وَ الّتي تقومُ على قانونِ الرّأسماليةِ الأساسي وَهوَ " الرّبح"،  الرّبحُ بِحاجةٍ إلى استهلاكٍ دائمٍ لِذلكَ فَإنّ ثقافةَ الاستهلاكِ تتطلبُ طبيعةَ حياةٍ غيرَ ثابتةٍ يشعرُ بها الإنسانُ بِأنّهُ يجبُ أنْ يقومَ بِاستبدالِ أثاثِ منزلهِ كلّ فترةٍ قصيرةٍ،  وَ بِالتّالي طبيعةً سائلةً لا ثباتَ فيها فقدْ يجددُ المواطنُ الأوروبي خلالَ خمسِ سنواتٍ منزلهُ وَ مكانَ عملهِ وَأثاثَ منزلهِ وَ حتّى شريكَ/ ةَ حياتهِ بسببِ قيمِ هذهِ الثقافة.

 

 الإعلاناتُ وَ السّياساتُ التّسويقيةَ الّتي تضخُ كميةً كبيرةً منَ الحججِ لِلتّصورِ بِأنّ حياتَنا لا يمكنُ أنْ تكونَ كاملةٌ منْ دونِ سلعةٍ وَ لتكنْ X تعودُ فيما بعدُ ( ربما سنواتٍ وَ ربما أشهر) لِإقناعِنا بِأنّ هذهِ السّلعةُ X  نفسَها سقطتْ بِالتّقادمِ وَ حياتُنا لنْ تكونَ أفضلَ إنْ لمْ نقمْ بِاستبدالِها بِالسّلعةِ Y  الّتي تمّ طرحَها مؤخرًا في الأسواق.

 

هذهِ الحالةُ منْ عدمِ الثّباتِ أسماها "سيغموند باومان" بِالحياةِ السّائلةِ حيثُ كانَ مثالي أعلاهُ حولَ السّيولةِ في الاستهلاكِ،  هوَ مثالٌ واحدٌ وَ لكنْ على أرضِ الواقعِ هذهِ السّيولةُ عبارةٌ عنْ حالةٍ طالتْ الاقتصادَ وَالسّياسيةَ وَالإعلامَ وَباقي مناحي الحياة، وَ الحياةُ السّائلةُ تتطلبُ في الدّرجةِ الأولى إيديولوجياتٍ منْ دونِ أيّةِ هويةٍ تاريخيةٍ كونَ أنّ هذهِ الإيديولوجيةَ المنفصلةَ عنْ السّياقِ التّاريخي وَ النّاشئةِ حديثًا هيَ الّتي تسطعُ وَ تأفلُ بناءً على عواملِ عرضٍ وَ طلبٍ في بورصاتِ العملِ السّياسي،  وَ هذا ما يروجُ لهُ السّائلونَ اليومَ منَ العاملينَ في مجالِ الإعلامِ وَ السّياسيةِ المدعومةِ غربيًّا.

 منْ هوَ الإنسانُ المهدور؟

 

مصطلحُ الإنسانِ المهدورِ هوَ مصطلحٌ استخدمهُ "الدّكتورُ مصطفى حجازي"  في دراستهِ النّفسيةِ وَ الاجتماعيةِ التّحليليةِ الّتي أجراها عنْ طبيعةِ الإنسانِ في العالمِ العربي وَ الإسلامي حيثُ طرحَ أسبابَ الهدرِ في كونِهم مثلثَ حصارٍ متمثلٍ في حكمِ المخابراتِ وَ البوليسِ السّياسي كَركنٍ "قاعدة" لِلمثلثِ وَ يتممهُ وَ يعززهُ ركنا العصبيةِ وَالأصولياتِ المؤدي إلى فقدانِ الإنسانِ السيطرةَ على صياغةِ مصيرهِ،  وَ معَ الحربِ النّفسيةِ على العربِ وَالمسلمينَ أصبحَ الحصارُ الثّلاثيُ رباعيًا منْ خلالِ " تهمةِ الإرهاب" وَ بِالتّالي يتعينُ عليهِ إثباتَ براءتهِ منْ خلالِ الانقيادِ الكاملِ لِمشروعِ الهيمنةِ الكوني.

 

وَ هنا لا بدّ لنا منْ تفنيدِ طرحٍ ساذجٍ آخر، وَ القائلُ بِأنّ منْ  يمكنهُ الوقوفَ في وجهِ إيدلوجيةِ السّيولةِ   همْ أصحابُ إيديولوجيةِ الإسلامِ السّياسي لأِنّهم أصحابُ هويةٍ عمرَها 1400 عامٍ وَغيرَ قابلةٍ لِلتّفكيكِ وَ هنا نردُّ على هذهِ الطّروحاتُ  بِأنّ صاحبَ هويةِ 1400 عامٍ همْ المسلمونَ وَ ليسَ الإسلامَ السّياسي كونَ أنّ الإسلامَ السّياسي هوَ حركةٌ تبلغُ منَ العمرِ 6 عقودٍ منْ الزمنِ وَ هي الّتي تلعبُ الدّورَ المهمَ في إعطاءِ الإسلامِ هويتَهُ ضمنَ هذهِ الحالةُ منَ الاستقطابِ العالمي،  وَ لكنْ هذهِ الهويةُ لِلأسفِ هيَ الإرهابُ كونَهم يجهضونَ أيّةَ حركةٍ إصلاحيةٍ تسعى إلى جعلِ الهويةِ الإسلاميّةِ جزءًا منْ هذا النّظامِ العالمي ضمنَ الدّين الإسلامي.

 

إنّ هذهِ الحالةَ منَ الحصارِ بِإيديولوجياتِ القهرِ تدفعُ الإنسانَ العربي وَالمسلمَ لِلنّكوصِ إلى أدنى مستوى في هرمِ "ماسلو" لِسلمِ الحاجاتِ الإنسانيةِ،  منْ حاجاتِ الغذاءِ وَ السّكنِ وَ الرّكضِ وراءَها لِلحفاظِ عليها وَ بِالتّالي لا يصبحُ سيدَ نفسهِ وَ لا بِقادرٍ على تقريرِ مصيره.

 

ما العملُ؟

 

إنْ أردنا أنْ نتكلمَ عنْ واقعِ الإنسانِ العربي فَالخلاصُ منْ حالةِ الهدِ يكمنُ في  تحييدِ ثالوثَ الحصارِ المتمثلِ بِالبوليسِ وَحكمِ المخابراتٍ منْ جهةٍ،  وَ العصبياتِ وَ الأصولياتِ منْ جهةٍ أخرى،  وَهذا ما يتطلبُ أسقاطَ أنظمةِ الاستبدادِ  وَ الّتي سوفَ يسقطُ معها حكمُ المخابراتِ وَ البوليسِ وَالعصبياتِ وَ حركاتِ الإسلامِ السّياسي الّتي سوفَ تُسقطُ معها أيضًا الأصولياتِ وَ تهمةَ الإرهابِ  عنْ المواطنِ العربي، وَ في الوقتِ ذاتهِ الانتباهُ منْ عدمِ الوقوعِ في فخِ الإيديولوجيا السّائلةِ الّتي تهاجمُ جميعَ الإيديولوجياتِ بِصفتِها اللاإيديولوجيّة.

 

وَ سوفَ أختمُ مقالي بِاقتباسٍ منْ كتابِ "الإنسانُ المهدور" لِلدّكتورِ  "مصطفى حجازي" ما قبلَ الدّيمُقراطيّة:

 

الاعترافُ بِإنسانيةِ الإنسانِ رغمَ توافقِ أهلِ الفكرِ وَ الرّأي على تشخيصِ الدّاءِ وَ وصفِ الدّواءِ المتمثلِ في الحرّيّةِ وَ احترامِ لعبةِ الدّيمُقراطية،  وَ لقدْ كادَ هذا الحديثُ أن يكونَ مبتذلًا لِكثرةِ تكرارهِ وَ انتشارهِ، وُ الأدقُّ القولَ إنّ الكلامَ فيهِ كادَ يفقدُ دقةَ الدّلالةِ  وَ كثافةَ المعنى وَ مادامَ يتحولُ إلى شعاراتٍ تتساهلُ بِشأنِها السّلطاتُ وَ كأنّ لسانُ حالِها يقولُ"دعهمْ يتساجلونَ يتجادلونَ وَ يتنادونَ ما دامَ الأمرُ لا يمسُّ الكراسي وَلا يهددُ المغانمَ بلْ إنّ الكثيرَ منَ السّلطاتِ تركبُ مركبَ الشّعاراتِ ذاتِها في نوعٍ منَ المزايدةِ الّتي يوفرُ لها الغطاء".

 

وَ أفضلُ أمثلةٍ عنْ الحالاتِ وزارةُ المصالحةِ الّتي أنشأها النّظامُ السّوريُّ وَما انبثقَّ عنها منْ لجانِ حواراتٍ وَ نقاشاتٍ وَ الّتي يريدُ النّظامُ بها تصويرَ حرصهِ على الشّعبِ وَ كذلكَ الأمرُ مراكزِ دراساتِ "عزمي بشارة" في قطر وَالّتي يريدُ بها النّظامُ الأميريّ القطري توفيرَ الغطاءِ لِنفسهِ في الوقتِ الّذي يتشاركُ بهِ مع باقي الأنظمةِ الخليجيةِ بِإدارةِ أهمّ مواردِ النّفطِ في العالمِ، وَ لِتاريخهِ لمْ نرَ أيّة جامعةٍ أو بنيةٍ تحتيةٍ تساهمُ في تطويرِ المواطنِ العربيّ وَ إنّما على العكسِ تمامًا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قانون الأحوال الشخصية والزواج المدني! ضحاياه الذين لم تأتي سياسة على ذكرهم

مظاهرات كوبا... برهان آخر على بعد الستالينيين عن الماركسية